أدركت أخيراً أننا لا نزداد إلا تعصباً ورفضا لقبول الآخرين مع تقدّم العمر. تتسابق الايام وتتشابه وفريق ينتصر وفريق يهزم والشعب في منتصف الميدان..
اتذكر يوما أثناء جلوسي على مقعدي في إحدى باصات النقل متنقلة من مديرية لأخرى في حبيبة القلب عدن، وصول أطراف الاحدايث إلى مسامعي شابكة يدها بيد ذكريات من الحرب.. فرجل مسن يأمل كل الأمل أن ينال مرتبه التقاعدي من البريد قد أعتلى مقعده وبدأ البوح بما يغض في قلبه من مخاوف العودة للمنزل خالي الوفاض.. ولم يتردد للحظة أن يذم الحكومة الشرعية بكاملها التي لربما حققت أرقاما قياسية بعدد شعره الأبيض في بيع الوهم وسرقة الثروات وذل المواطن أثناء استلامه مرتبه الضئيل.. ليقاطعه سائق الباص بأن الحكومة ليست فاسدة بالكامل بل أن كلام المسن لا ينطبق إلا على مجموعة منهم.. ولم يتوانى سائق الباص عن تبجيل الرئيس عبدربه منصور هادي وتنزيهه من التصرفات اللامسؤولة.. إلا أن الرجل المسن أعلى صوته محتجا على ما يسمعه قائلا: "عبدربه يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية فهو مسؤول عن الحكومة والأرض والثروات ومصالح الناس وهو من ينبغي عليه كشف بائعي الوطن ومحاسبتهم وإعادة تقسيم المناصب والمهام لمن هم أكثر أمانة ووفاء للأمانة" .. واستكمل: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وأي خلل في الحكومة يتحمل مسؤليتها عبدربه بدون ألقاب أو مسميات فقد فاض الكيل.. نحن لا ننام بسبب مخاوفنا من توقف مرتباتنا وكلنا ثقة بأن الانتقالي الجنوبي سيعمل المستحيل كي لا يمس المواطن أي سوء" .. بقي الرجل المسن في انتظار الإجابة إلا أن سائق الباص تظاهر بانشغاله فمن الواضح أن الكلام لم يعجبه!
تنقلت نظراتي بين أحياء عدن التي سريعا ما تصاب بمرض النكبات،ارثيها ويقف رمش عيني عن الحراك حدادا لما أشاهده من حال وصلت اليه.. أراقب بخدر شديد المباني المحروقة والمدمرة والطرقات المكسرة والأشجار اليابسة والحدائق المقفلة ونظرات اطفال الشوارع المليئة بالحزن والشقاء .. اراقب احتراق خيوط النسيج الاجتماعي المهترئة وتلاشيها فحتما نحن بحاجة لخيوط جديدة لإعادة حياكتها مجددا.. ولازالت ترن في اذني مقولة الرجل كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وهو حديث عن النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم.. وتحترق بداخلي نارا هوجاء غضبا من ولاة أمرنا (الشرعيين) الذين لم يذوقوا ويلات العيش لاغترابهم في فنادق دولية تحمل الخمسة نجوم..
ولأن من شب على شيء شاب عليه إلا من هداه الله .. فإن التعصب والولاء الحزبي والشخصي لا الوطني قد أودى بأعصابنا في "ستين داهية" كما يقول الأخوة المصريون.. فمنذ صباح اليوم الموافق 28 اغسطس 2019م فاحت رائحة المطبخ الإعلامي الإصلاحي معلنة سقوط المطار وتسليم المعسكرات وغيرها من أنباء متداولة روجت في محاولة فاشلة من أجل زعزعة الأمن ونخر الصف الجنوبي.. دخلنا اليوم في حقبة جديدة من البروباجاندا الكاذبة والمضادة للإرادة الجنوبية المطبوخة باذرع إرهابية ممولة..
إخواننا الجنوبيون.. لا تستخسروا قليلاً من التضامن مع القضية الجنوبية والمجلس الانتقالي الجنوبي كفو عن اللغو وبث ما لا فائدة منه.. كفو عن التحيز والتعصب لأنه الثغرة التي يستغلها العدو لقصم ظهرنا.. تحلوا بالوطنية والانتماء للأرض التي ترعرعتم فيها وان جار عليكم الزمان.. استخدموا قوتكم في وقتها ومكانها الصحيحين ولا تنجروا وراء العملات الأجنبية والصفقات الواهية..
السادة الجنوبيون.. توحدوا،تسامحوا.. احذروا.. تحاوروا.. فسينسانا العالم سريعاً كما نسي الكثيرين قبلنا.. نضالنا طويل لم نكلّ خلاله يوماً .. افسحوا للجميع حيزا.. واسقطوا من ايامكم وسنينكم عثراتكم وخيباتكم وتعصبكم .. وأكررها
مجددا .. احذروا كي لا تلدغوا من ذات العدو مرتين.. وأعني بالعدو كذلك .. كل جنوبي خائن وكل عميل ومرتزق إلى جانب الحوثة والإصلاح والقاعدة والخ..
الموقف الذي عشناه اليوم ونقلته عشرات القنوات من زوايا مختلفة كاد أن يفقدني «أمميتي» التي كانت تعينني على الاندماج مع الآخر.. كيف للشرعية أن تحشد قواتها من أجل تحرير الجنوب المحرر وهي لم تبذل رصاصة واحدة في جبهات الشمال .. كدت أن اتجرد من نفسي لما تفعله حكومة الشر والضغينة.. اتعي حقا م ينبغي عليها فعله.. أم أنها مشغولة ب"الباور شو" تفرد عضلاتها فيه وتنتقم لاحقاد شخصية.. يعود صوت الرجل المسن الذي يقول كلكم راع، واكررها في نفسي: كلكم راع، لكم راعة ي حكومة ..(كما يقول إخواننا في حضرموت.. والراعة تعني الخوف والفزع)، واتعوذ من الشيطان واحافظ على ما علمني اياه والدي من نزاهة وتقبل للآخرين مجددا ولكن هذه المرة غير مسامحة لكل رصاصة انطلقت ولكل خبر زائف وسأشكي حكومتنا وعلى رأسها هادي إلى الله وانتظر يوما اجتمع فيه عنده مع خصومي وخصوم الوطن..
كتب/حبر
الأربعاء 28 اغسطس 2019م
مقالات أخرى