بين نار عدن ونعيم المعاشيق أين ضمير الدولة
بقلم: د. قاسم الهارش

في مدينة يفترض أنها "العاصمة المؤقتة" تختنق الحياة رويدا رويدا وتتهاوى مقومات البقاء وسط غياب تام لأي ملامح لدولة حقيقية.
كل مؤشرات الانهيار تتصاعد الأسعار تشتعل، الكهرباء تنقطع، المياه تغيب، الخدمات تنهار، والأرواح تستنزف بصمت.
أما الدولة؟ فتبدو كمن يراقب من خلف زجاج داكن لا يرى من خلاله سوى امتيازات النخبة الحاكمة.
في عدن لا يحتاج المواطن إلى تقارير دولية أو تحليلات سياسية معقدة ليدرك حجم الكارثة فالمأساة مرسومة على وجوه الأمهات والأطفال والشيوخ والمرضى وكل من يقاوم للبقاء على قيد الحياة.
يكفي أن ترى أمًا تلوح بكرتون في محاولة يائسة لتبريد طفلها أو شيخا يلهث في غرفة بلا هواء أو طبيبا يغادر مستشفى أُغلق بسبب انقطاع الكهرباء.
هنا لا تروى الحكايات بل تعاش الفواجع.
أما "الشرعية" التي جاءت تحت راية الإنقاذ فقد غابت عن الوعي أو غيبت نفسها طواعية خلف المؤتمرات واللقاءات الباردة في العواصم بعيدا عن آلام الناس وجحيمهم اليومي.
بين الرياض والقاهرة يتابع بعض المسؤولين أخبار عدن كما يشاهد المشاهد البارد فيلما حزينا لا يعنيه فيما الداخل يعيش فصلاً من الجحيم.
كهرباء منقطعة لأكثر من 16 ساعة يوميا، مياه غائبة عن كثير من الأحياء أسعار تقفز يوما بعد يوم رواتب جامدة أو مفقودة مستشفيات شبة مغلقة، وصيدليات بلا دواء ومراكز صحية شبه مشلولة.
آلاف العائلات تعيش في الظلام في الفقر وفي الانتظار القاتل.
كل شيء في عدن يرتفع حرارة الطقس، أسعار الغذاء، حجم الفساد، أعداد الفقراء والنازحين، وحجم الانتهاكات، وحتى عدد المتسلقين والانتهازيين في مواقع القرار.
لكن الشيء الوحيد الذي لا يرتفع هو قيمة الإنسان.
لقد وصل الحال إلى أن يضطر مواطن فقير لرهن أثاث منزله ليستأجر غرفة مكيفة بثلاث ليالٍ بعد عملية جراحية فقط ليحفظ جراحه من التعفن.
بينما بعض الوزراء ينامون في أجنحة فاخرة ويغردون على منصات التواصل عن "تحسين الأداء الحكومي".
فهل تنتظر الحكومة أن تتحول عدن إلى مدينة أشباح لتتحرك؟
هل ينتظر مجلس القيادة الرئاسي إشارات خارجية قبل أن ينهض بواجباته الوطنية؟
وهل أصبح الحل الوحيد هو رحيل هذه الطبقة الحاكمة بعدما فشلت حتى في تشغيل محطة كهرباء أو دعم مستشفى حكومي؟
والمفارقة المؤلمة أن هذه "الشرعية" نفسها بكل مؤسساتها ومجلس قيادتها لا تقيم في عاصمة بعيدة أو دولة أخرى بل تعيش في قلب عدن حاليا في مدينة اسمها "المعاشيق".
مدينة محصنة لا تبعد سوى أمتار قليلة عن أحياء تغرق في الظلام والعطش.
في المعاشيق، الكهرباء لا تنقطع، المياه متوفرة، العلاج مضمون، الرواتب تصرف بانتظام، والامتيازات كذلك.
المكيفات تعمل على مدار الساعة وكل شيء متاح هناك كأنها جمهورية داخل الجمهورية.
كأنها ليست جزءا من عدن التي تختنق.
هنا تتحول الأزمة من فشل إداري أو خلل خدمي إلى مسألة ضمير غائب وسلطة منقطعة عن الواقع لا ترى في الناس سوى أرقام في تقارير أو صور في نشرات الأخبار.
وكأن الشعب لا يعيش على بعد أمتار منهم بل في كوكب آخر لا يصل إليه صوت ولا صرخة ولا وجع.
نحن لا نطالب بالمعجزات.
نطالب فقط بدولة تحترم أبسط حقوق الإنسان.
نطالب بمسؤولين يشعرون بمعاناة الناس لا بموظفين يتسابقون على الامتيازات والمناصب.
نريد شرعية حقيقية، شرعية تفي بواجباتها أو تترجل بشرف قبل أن تغرق المدينة كلها في الفوضى.
عدن اليوم لا تحتاج إلى لجان تحقيق شكلية بل إلى ضمير حي.
لا تحتاج إلى وعود مؤجلة بل إلى أفعال عاجلة.
وإن لم يكن لدى هذه السلطة ما تقدمه سوى بيانات الإدانة والتبرير  فلتتنح، لا أسف عليها.
لأن استمرارها اليوم لم يعد إنقاذا بل مشاركة في الجريمة.

متعلقات
الدكتورة وسام باسندوة تبحث أوضاع النساء وحقوق الإنسان في اليمن مع مسؤولين أمميين بجنيف
بين نار عدن ونعيم المعاشيق أين ضمير الدولة
أربعة قتلى وعدد من الجرحى في فعالية حوثية بمحافظة إب إثر خلاف على التصوير بجانب مسؤول حوثي
دراما اللحظات الأخيرة.. الريال يعبر دورتموند ويصطدم بسان جيرمان
تعرف على رحلات طيران اليمنية اليوم الاحد