اصدار النقد في اليمن بين تفكك السلطة ووحدة السوق
كتب يحيى الطويل

 

في عام 2011، أعلن جنوب السودان كدول ناشئة عن إطلاق عملته الوطنية الجديدة، دون أي تنسيق مع الحكومة في الشمال ردًا على ذلك، سارع البنك المركزي السوداني في الخرطوم إلى سحب الجنيه القديم من التداول وإصدار طبعة جديدة خلال أسبوع فقط.
هذا القرار السريع فَرض واقعًا قاسيًا على الجنوب لم يعد بإمكانه تحويل مخزونه من العملة القديمة إلى ذهب أو دولار، انهارت مراكز البنوك الجنوبية، وضاعت مدخرات المواطنين، وسقط الجنوب في أول معاركه النقدية كدولة مستقلة.
هكذا تبدأ الكارثة عندما يُسيّس إصدار النقد خارج سلطة الدولة والتفاهمات المؤسسية فالاقتصاد، بخلاف السياسة، لا يقبل القفز فوق الواقع، هو نظام مرن، لكنه لا يغفر التهور، وصارم في منطقه، يقوم على الأرقام، والأرقام لا تكذب.
بعد سنوات، وفي عام 2017، تم نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن، وبقيت سلطة إصدار النقد رسميًا بيد الحكومة الشرعية، حتى فاجأ الحوثيون الجميع بإصدار نقدي مستقل.
هذا الشكل من التفكك النقدي يُشبه إلى حد كبير ما حدث في السودان، - غير أن المفارقة هنا مذهلة - عملة الحكومة الشرعية تتدهور باستمرار (ثمن لالتزام الحكومة بوحدة السوق اليمني)، بينما تُظهر العملة الحوثية نوعًا من الثبات النسبي ( قمع السوق)، على الأقل في أسعار الصرف.
يحاول هذا المقال تفكيك المشهد النقدي اليمني بعيدًا عن الأحكام السياسية، والاقتراب من الحقيقة كما تمليها الوقائع، لا كما يرغبها الخطاب السياسي.
أولًا: تضخم نقدي متبادل وتحويل الأزمات عبر المناطق
رغم الانفصال النقدي بين صنعاء وعدن، إلا أن الاقتصاد اليمني لم ينفصل فعليًا. 
السيولة المطبوعة في مناطق الحوثيين تُستَخدم بذكاء لخلق ضغط تضخمي في مناطق الحكومة الشرعية، من خلال قنوات التجارة والخدمات والاتصالات التي ما تزال فعالة بين الطرفين، شركات الاتصالات مثل يمن موبايل، والتجار الذين ينقلون سلعهم من الشمال إلى الجنوب والعكس، جميعهم يساهمون في ضخ سيولة غير مغطاة في أسواق الحكومة الشرعية عبر آليات تبديل وتحويل العملة.
كما تُساهم تحويلات العاملين من عدن إلى صنعاء بدور خفي في دعم النقد المتداول في مناطق الحوثيين، بما يحوّل عدن إلى مموّل نقدي غير مباشر لتلك المناطق، دون أن تمتلك أي أدوات رقابية على آلية الاستخدام أو التوزيع.
الأسوأ أن المعاملات التجارية بين الطرفين أصبحت تُدار وكأنها عمليات استيراد كاملة، بما في ذلك المنتجات الزراعية والقات، والتي تُطلب بالعملة الصعبة، ما يُحوّل هذه العلاقة إلى شكلٍ من أشكال الاستنزاف المستمر لاحتياطيات عدن من النقد الأجنبي.
هذا التدفق الخفي يُترجَم إلى طلب مضاعف على العملات الأجنبية في عدن، ما يضغط على سعر الصرف ويؤدي إلى تسارع التضخم، ليس فقط بفعل الطباعة في صنعاء، ولكن بفعل بنية السوق المترابطة.

ثانيًا: المضاربة المنظمة واحتكار سوق الصرف
أحد أخطر ملامح الأزمة يتمثل في تسييس المضاربة عبر شبكات صرافة خاضعة للحوثيين، تُستَخدم كميات من العملة القديمة والجديدة لإغراق سوق عدن بشكل متعمد، وخلق موجات طلب مصطنعة على الدولار، يُعاد شراء العملة الأجنبية بأسعار منخفضة في فترات ضخ السيولة، ثم تُعاد بيعها بأسعار مرتفعة لاحقًا، مما يحقق أرباحًا خيالية تُستخدم في تمويل أنشطة غير اقتصادية (مثل تمويل الصراع العسكري والإعلامي).

تُظهر البيانات – ومنها تقرير رويترز ومركز صنعاء – أن حوالي 85 ٪ من الاعتمادات المستندية الصادرة من البنك المركزي من حصة الودائع في عدن تصب في صالح موردين وتُجار في مناطق الحوثيين، مما يجعل البنك المركزي في وضع تغذية مباشرة لاقتصاد الخصم، بينما تُستخدم تلك الاعتمادات للحصول على الدولار وشراء البضائع من الخارج، التي تُباع لاحقًا في مناطق الحوثيين بأسعار تفوق السوق، مما يُضاعف الأرباح المحلية لديهم.

المفارقة أن هذه المضاربة تجري تحت أنظار السلطات، بل أحيانًا بتواطؤ عناصر منها، في ظل غياب نظام مركزي موحد لمراقبة تداول العملات بين المناطق.

رابعا: هشاشة البنية المصرفية في مناطق الحكومة
بدأت البنوك التقليدية (التي كانت متمركزة في صنعاء) بنقل عملياتها إلى عدن، لكنّها تصل مثقلة بالخسائر والتزامات متراكمة، هذه البنوك، بدلًا من أن تعزز الاستقرار المالي، أصبحت عبئًا على بيئة مصرفية غير مؤهلة، وتعمل في ظل رقابة ضعيفة، وهياكل تشغيلية هشة.
في هذا السياق، لا تضع الحكومة الشرعية أي تمييز مالي أو نقدي في تعاملها مع المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، التزامًا منها بالمواثيق الدولية والمعايير الوطنية، ما يجعلها تتعامل اقتصاديًا مع اليمن بحدوده الجغرافية الكاملة، ورغم نُبل هذا التوجه سياسيًا، إلا أنه يُعد أحد أبرز نقاط ضعفها الاقتصادية، إذ يتيح للطرف الآخر الاستفادة الكاملة من النظام المالي دون التزامات متبادلة.

خامسا: صراع العملات وانعدام الغطاء المستقر
العملة في صنعاء مدعومة ضمنيًا بمصادر محلية مثل رسوم الجمارك، الضرائب، تحويلات العاملين والتبادل التجاري مع مناطق الشرعية، وبعض الأرصدة الخارجية (يُقال أنها مدعومة بذهب إيراني غير معلن)، بينما العملة في عدن تعتمد على دعم سعودي مؤقت وغير منتظم، هذا التباين يجعل الصراع النقدي حربًا غير معلنة بالوكالة، حيث يستخدم الحوثيون كل أدواتهم لإرباك الطرف الآخر.
وبعكس الحكومة الشرعية، التي ما تزال ملتزمة بوحدة السوق، مارس الحوثيون انفصالًا اقتصاديًا شبه مكتمل، مستفيدين من كامل الأدوات النقدية لفرض واقع مستقل، دون الالتفات لأي التزامات وطنية.
في الواقع، قد يكون إعادة توحيد اليمن نقديًا الآن أصعب بكثير من إعادة توحيده سياسيًا كما حصل في 1990م، نظرًا لعمق التفكك النقدي، وسيطرة الحوثيين على مفاصل أساسية من السوق غير الرسمية.

متعلقات
اللواء الخامس دفاع ‎شبوة يضبط قتلة الشاب ياسين الخليفي وناهبي سيارته في وقت قياسي
صحيفة دولية : مناخ الخوف الحوثي يفرغ صنعاء من الصحافيين والكتاب المستقلين
هلال الإمارات يسعف زوّار «موسم البلدة» في حضرموت.. خدمات طبية مجانية
إيران: لن نتخلى عن برنامجنا لتخصيب اليورانيوم
انتقالي المسيمير ينظم محاضرة عن مهام واختصاصات المراكز المحلية