في قلب كل شعبا من الشعوب، يقف المعلم كأحد أعمدتها الأساسية، فهو حامل رسالة النور والعلم، وصانع الأجيال وصوت العقل والضمير. لكن، حين تتحول قاعات المدارس إلى ساحات يُغشى فيها على المعلمين من الجوع، فإننا أمام مأساة تتجاوز حدود التعليم، لتصبح أزمة أخلاقية وإنسانية بامتياز.
قبل يومين برزت إلى السطح اخبار صادمة لمعلمة في مدارس مديرية دارسعد تسقط مغشيًا عليها داخل الفصل الدراسية، بسبب الجوع والإرهاق، أو سوء التغذية المرتبط براتب مقطوع منذ ثلاثة شهور.
لم تعد تلك الحالة مجرد حوادث فردية، بل باتت ظاهرة مقلقة تعبّر عن تردي الوضع المعيشي لشريحة من المفترض أن تكون من أكثر الفئات احترامًا وتقديرًا في أي مجتمعا كان.
يا سادة.. المعلم الذي يقضي ساعات يومه في تربية وتعليم أبناء الوطن، لا يجد ما يسد به رمق أسرته. ومع تزايد الأسعار مع تعافي العملة المحلية في خاصة في المناطق المحررة، أصبح المعلم يعيش على حافة الفقر، بل في بعض الأحيان في عمقه. كيف لمعلم جائع، مهموم بتأمين وجبة لأطفاله، أن يمنح طلابه العلم والأمل؟ كيف له أن يزرع فيهم القيم والطموح، بينما هو نفسه يكافح من أجل البقاء؟
قد يحاول البعض التقليل من حجم الأزمة، بحجة أن المعلمين يملكون وظائف مستقرة أو يحصلون على إجازات طويلة، لكنهم يتجاهلون حقيقة أن الاستقرار لا يعني الكرامة، وأن الإجازة لا تطعم جائعًا. ما قيمة الوظيفة إذا كانت عائداتها لا تكفي لشراء الدواء أو دفع إيجار البيت أو حتى توفير وجبة فطور؟
يا سادة.. المعلم الذي يُغشى عليه في الصف، لا يسقط وحده، بل يسقط معه جزء من هيبة التعليم، وينهار أمام أعين الطلاب رمز القدوة والطموح. تتحول صورته من ذلك الشخص الذي ينير الدرب، إلى شخص مسحوق، منهك، عاجز عن الصمود.
يا سادة .. هذا الوضع لا يُمكن أن يستمر دون عواقب وخيمة على مستقبل التعليم والمجتمع. عندما يفقد المعلم كرامته، يفقد التعليم معناه. وعندما يتدهور وضع المعلم، ينعكس ذلك على أدائه، وعلى نوعية التعليم التي يتلقاها الطلاب، وبالتالي على مستقبل الوطن بأكمله.
يا سادة.. الحل لا يكمن في الشعارات، بل في السياسات. يجب أن تكون هناك مراجعة شاملة لأوضاع المعلمين المعيشية، تبدأ من صرف الرواتب ورفعها بما يتناسب مع غلاء المعيشة، وتوفير التأمين الصحي، ودعم السكن، والتقدير المعنوي. فالمعلم لا يحتاج فقط إلى خبز، بل إلى احترام، إلى بيئة تحفظ كرامته وتمنحه الحافز ليعطي أفضل ما لديه.
يا سادة .. علينا أن نتذكر دائمًا: من يعلّم الطبيب والمهندس والقاضي والصحفي؟ إنه المعلم. فإن سقط المعلم جوعًا، سقط معه الوطن، ولو بعد حين.
يا سادة ..أعيدوا للمعلم هيبته، وأعيدوا لمهنة التعليم قدسيتها. فكرامة المعلم ليست ترفًا، بل ضرورة. ورفعة التعليم تبدأ من هناك، من حيث يقف رجل أو امرأة قررا أن يكونا معلمين رغم كل شيء.