بينما تشتعل جبهات الشرق الأوسط بصراعٍ يتخذ بُعدًا أكثر خطورة مع تصاعد وتيرة الحرب بين إسرائيل وإيران، يقف اليمن، كعادته، في قلب العاصفة، دون أن يكون طرفًا مباشرًا فيها، فرغم البُعد الجغرافي الظاهر، فإن تداعيات هذه الحرب بدأت تُلقي بظلالها على المنطقة برمّتها، واليمن، وتحديدًا الجنوب المحرر الواقع تحت سيطرة الحكومة الشرعية، ليس بمنأى عن هذه التأثيرات، بل لعل الجنوب هو الأكثر عُرضة لتقلّبات هذا المشهد المتوتّر، بحُكم موقعه الجيوسياسي، وارتباطاته بالممرّات البحرية، وتداخله مع أطراف إقليمية لها علاقة مباشرة بالصراع.
من المعروف أن إيران لطالما استخدمت أدواتها في المنطقة كورقة ضغط عند كل تصعيد؛ فالحوثيون في شمال اليمن يُمثلون إحدى تلك الأوراق التي قد تُحرّك في أي لحظة ضمن سياق المناورة أو الردع. ومع تصاعد التوتر في المنطقة، واحتمالية دخول لاعبين غير مباشرين على خط المواجهة، بات من المرجّح أن تشهد جبهات القتال نوعًا من التصعيد الحوثي، ليس فقط بهدف تحقيق مكاسب ميدانية، بل أيضًا لتوصيل رسائل استراتيجية باسم طهران. وإذا حدث ذلك، وهو ما بات واردًا في ظل الانفجار الإقليمي المتسارع فإن الجنوب سيُصبح في وضعٍ معقّد أمنيًا وعسكريًا، خاصة في ظل هشاشة الجبهة الداخلية وتداخل الصلاحيات بين القوات الحكومية العسكرية والأمنية بمختلف تشكيلاتها.لكن الأخطر من ذلك، من وجهة نظرنا، لا يكمن فقط في التهديدات العسكرية، بل في التداعيات الاقتصادية التي قد تكون أكثر قسوة، إذ تشير التقديرات إلى أن أسعار النفط ستواصل ارتفاعها نتيجة اضطراب الإمدادات. وهذا يعني أن كلفة الوقود ستتضاعف، في بلدٍ يُعاني أصلًا من أزمة اقتصادية خانقة، وسيقود ذلك إلى موجة جديدة من الغلاء قد تطال أبسط ضروريات الحياة، لتُضاعف الأزمة الاقتصادية وتزيد الطين بلّة، في وقتٍ تقف فيه الحكومة الشرعية للأسف دون خطة اقتصادية طارئة أو آلية استجابة فعّالة تقي المواطن من هذا الانهيار المتسارع.
لقد بات من الأجدر بالحكومة، بل من واجبها الوطني، أن تتعامل مع هذا التهديد المتعدد الأوجه بما يتناسب مع خطورته. فالوضع لا يحتمل مزيدًا من التسويف أو التعويل على دعم خارجي قد لا يأتي في الوقت المناسب. وعلى ذلك، كان من المفترض، مع بدء مؤشرات التصعيد في المنطقة، أن تتحرّك الحكومة الشرعية في عدن لإعلان حالة طوارئ اقتصادية، والعمل على تأمين مخزون استراتيجي من المواد الأساسية، ووضع خطة لدعم السوق المحلية وحماية العملة، ولو بالحد الأدنى الممكن. لكن ما يحدث في الحقيقة يعكس غياب الرؤية الاستراتيجية وتراجع قدرة الدولة على التفاعل مع التحديات الكبرى.
وليس هذا فقط، بل يبدو أن التنسيق الأمني والعسكري لم يرتقِ بعد إلى المستوى المطلوب، رغم أن الخطر هذه المرة لا يُهدد مدينة أو محافظة فحسب، بل يهدد الجنوب كله. وإذا ما قرر الحوثيون، بتوجيهٍ إيراني أو بتقديرٍ ذاتي، إشعال جبهات الجنوب في لحظة معينة، فلن يكون هناك متّسع من الوقت لترميم ما سقط بفعل الإهمال. وهذا يستدعي إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين مكوّنات القوى الجنوبية المختلفة، وتعزيز التنسيق العسكري الحقيقي الذي يتجاوز المناكفات، نحو شراكة فعلية في الدفاع عن الأرض والعِرض.
وفي هذا السياق، يجب أن نعترف بأن الحكومة لا تزال تتعامل مع الأحداث بروح ردّ الفعل، وليس بمنطق المبادرة أو الاستباق. وهذا نمط خطير في إدارة بلدٍ يُحاصَر من جميع الجهات، ويُدفع قسرًا نحو حافة الانهيار الشامل. فليس من المنطقي أن يبقى الجنوب رهينًا لردود أفعالٍ متأخرة، بينما القوى الإقليمية تُعيد رسم خريطة المصالح والنفوذ
وبالنظر إلى طبيعة المرحلة الراهنة، سيكون من الحكمة أن تُعيد الحكومة ترتيب أولوياتها، وأن تنظر إلى ما يحدث في المنطقة باعتباره فرصة أيضًا، لا تهديدًا فقط. فالجنوب، إذا ما أُحسن استثمار موقعه الاستراتيجي، يمكن أن يكون طرفًا فاعلًا في حماية الأمن الملاحي، خاصة في باب المندب، بما يخدم مصالح القوى الكبرى، ويمنح الحكومة الشرعية دعمًا سياسيًا إضافيًا. لكن هذا يتطلّب خطابًا سياسيًا واضحًا، وحراكًا دبلوماسيًا مدروسًا، وأجهزة قادرة على تنفيذ ما يُقرّره القادة، لا مجرد أمنيات معلّقة في الهواء.
إن الواقع الذي يعيشه الجنوب المحرر اليوم لا يسمح بمزيدٍ من التردّد. فالحرب بين إسرائيل وإيران، وإن بدت بعيدة جغرافيًا، إلا أن مفاعيلها الاقتصادية والأمنية والسياسية تتسرّب إلى عمق الجنوب كل يوم. وإن الجنوب، بما يحمله من أهمية استراتيجية وثروات وموارد، بات مستهدفًا بشكل غير مباشر ضمن هذه الحسابات الدولية المتشابكة. لذلك، فإن التحرّك الاستباقي لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية تمليها ظروف المرحلة الحالية.
وفي نهاية المطاف، لا بد من التأكيد على أن ما يُنقذ الدول في مثل هذه اللحظات الحرجة، ليس كثرة المؤتمرات ولا التصريحات، بل الإرادة السياسية الصادقة، والقدرة على الفعل في الميدان. فإمّا أن تستفيق الحكومة الشرعية وتلتقط إشارات الخطر قبل فوات الأوان، أو أن يُكتب الجنوب، من جديد، فصلًا مريرًا في دفتر الخذلان.