لم يبق موضع في جسدي إلا وفيه أثر عذاب وموضع جراح ولم تبق ذرة في نفسي إلا وفيها جرح عميق ينزف ألما وحسرة هل كل ما يحدث هنا في السجن الحربي يخرج من بشر من إنسان
غير معقول أن هؤلاء المخلوقات بشر إنهم مخلوقات تسمع وترى وتنطق وتمشي على رجلين ولها ذراعان وهيكل بشري لا لا إنها مخلوقات غريبة من تركيبة عجيبة
مر اليوم الأول بسلام في الزنزانة الجماعية محاطا برائحة الإسهال وأحاديث السجناء خصوصا قيس وتلك الأفكار التي راحت تطرق أبواب الذاكرة ظهيرة اليوم التالي كنت أجلس في الزاوية والجوع يعتريني ولم يكن في حوزتي سوى حبة قات رديئة جزء مني أراد إتمامها حتى نهايتها وجزء آخر أراد تركها لولا أن حالتي النفسية دفعتني لإنهائها
وإذا بأحد السجناء يشير إلي قائلا هات قطعة منها
آه ما أغلاها تلك القطعة في السجن إنها بمثابة التنازل عن حق من حقوقك بل عن روحك ومع ذلك أعطيتها له برضا فقد أحتاج منه واحدة لاحقا
اقتربت من نافذة الزنزانة الصغيرة وسمعت السجان يناديني هرعت نحوه ففتح الباب ونادى اسمي مرة أخرى لم أكن أعلم أن ذلك النداء يحمل قراره الأقسى التحويل إلى الزنزانة الانفرادية
ودعت قيس وعدته أن أخطب له تلك الفتاة وودعت الآخرين على وجوههم رأيت الحزن وكأنهم فقدوا شيئا ثمينا يوم ونصف فقط لكنه كان كافيا لأترك أثرا بالغناء والرقص وأغاني أيوب وفيصل علوي غريب هو السجن كيف يربطنا ببعضنا رغم البؤس وعندما يغادر أحدنا نشعر بالخسارة
في الزنزانة الانفرادية
الزنزانة لا تتجاوز مترين في متر ونصف بطانيتها بالكاد تغطي من الرأس حتى الركبة والفراش لا يختلف كثيرا عن البلاط إنها غرفة للعذاب النفسي الصامت
سلمني مساعد السجان قارورة ماء فارغة للتبول وأخبرني أن الخروج مسموح كل يومين مرة واحدة فقط عدا ذلك حتى لو شنقت نفسك فلن يسمحوا لك بالخروج
في هذه العزلة القاتلة يمر الوقت كسكين ينهش جسدك ببطء إنه عذاب يفوق النار وجحيم يتغذى من صمتك هناك حيث لا بشر تدخل في صراع داخلي امتد منذ ولادتك تبدأ تغرق في دوامات لا نهاية لها تنام بصعوبة تحلم بلا أحلام وتفيق على كوابيسك
من شدة الظلام والاكتئاب والرائحة التي تصدر بسبب المخلفات فضلت أن أظل واقفا على أقدامي وفي نهوضي ركلت رأسي حتى شعرت بالدوار تبولت حتى امتلأت القارورة ثم طرقت الباب عشر مرات أتى مساعد السجان ومعه كشاف كهربائي صعقني به في كتفي صعقة هزتني من الداخل أخرجتني من جسدي وتركتني بلا اتزان
غسلت فمي من بقايا القات ومكثت طويلا في الحمام هناك وسط البلاط البارد شعرت براحة لم أشعر بها منذ زمن قلت في نفسي لو أن الوطن حمام لربما عشنا فيه شيئا من الحرية
مواجهة التحقيق
مرت الليالي ثقيلة موحشة مظلمة ليس هناك ما يفرق بين الليل والنهار الجدران صامتة الوقت ميت والنفس تنهار ببطء
وفي اليوم الثالث بدأت التحقيقات دخل ضابط الأمن نظر إلي باستعلاء وسأل كيف خالدي وأنت من آنس ومع من المرتزقة
أجبته بقسوة خالدي بسيط سكنت آنس لكنها لم تسكنني أنا خرجت من رحم أمي حرا رضعت حليب العزة والكرامة ومن خلال ردي أظنك فهمت
ما كان منه إلا أن قيد قدمي وقال عشان تتأدب
نظرت إليه فشاهدت في عقلي صور الثوار الأوائل من فتحوا صدورهم للرصاص وسجنوا من أجل الوطن لا من أجله
اتهمني بالكفر والعمالة فقلت له أشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله أؤمن برب الناس لا ربك الذي يأمرك بقتل من تشاء الله حر وأنقى من كتبكم وموروثكم لا يأمر بالتعذيب ولا بالقيود
كلماتي كانت كالصاعقة عليه فصعقني بالكهرباء شعرت وكأن العالم كله استقر على رأسي أغمي علي لأصحو في الزنزانة مجددا لا أقدر على الحركة
رحلة الألم مستمرة
أيام تمر دون طعام دون ماء دون تحقيق أربعة أيام في الزنزانة في عزلة أكلت كل ما تبقى من الأمل فتشت عن بقايا طعام فوجدت قطعة عند رأسي كما لو كان الأمل ذاته
ضحك بخبث وفي انتقام صامت قطع عني الماء ثلاثة أيام
صمت طيلة تلك الأيام لم أشتك بل ابتهلت لله وتضرعت له أن يمنحني صبرا
السجن ليس جدرانا فقط
ما الذي يمكن أن يسلبه السجن من الإنسان ربما لا يأخذ الأفكار لكنه يزرع الكوابيس يجعل من الأيام القادمة كوابيس مؤجلة السجن ليس مكانا بل حالة نفسية قاتلة
خمسة عشر يوما قضيتها بين التحقيقات الأسئلة المكررة التعذيب والشتائم لم أستسلم لم أنكسر وكنت أعلم أن الوقوف مع أفكاري أهم من كل شيء
ضربني الضابط صفعة جعلتني أترنح لكنه انتظر أن أسقط ولم أفعل
أخرجوني من الانفرادية إلى بدروم مكتظ بمئة وعشرين سجينا هناك بعد الوحدة شعرت أنني غريب وسط الزحام كنت قد اعتدت الصمت والانعزال والتوجس من الجميع رأيت فيهم جواسيس ومخبرين ونوايا غامضة
صمت حتى خيل إلي أنني أصم
يتبع